الهدهد الثقافيتربية وتكوين

” الأدب في خطر ” لتزوفيطان طودوروف

 

قراءة  في كتاب” الأدب في خطر”

ل “تزوفيطان طودوروف”

إن الكتاب الذي بين أيدينا ، للفيلسوف-الأديب البلغاري ” تزوفيطان طودوروف ” ( Tzevetan Todorov ) ، المعنون ب ” الأدب في خطر” ( , Paris, Flammarion, 2007  La littérature en péril ) ، عمل على ترجمته  ” عبد الكبير الشرقاوي ” ، دار توبقال ، حيث تم نشر هذا الكتاب ضمن سلسلة المعرفة الأدبية ، بالدار البيضاء ، الطبعة الأولى ، سنة 2007. فبخصوص الواجهة الأمامية و الخلفية للكتاب، تم انتقاء لوحة الغلاف لعمل الفنان ” محمد مليحي “، إذ يحتوي الكتاب على سبعة عناصر بعد التمهيد، ليختتم بهامش ، يضم المصادر و المراجع المعتمدة في التحرير ، من بينها  ما يلي  :

S. Doubrovsky, T. Todorov (sous la dir.de), L’Enseignement de la littérature, Plon, 1971.

J.Rousset, Forme et signification, José Corti, 1962.

Platon. Philèbe, 60c.

A .Shaftesbury, Characteristics of Men, Matters, Opinions, Times, éd.de 1790.

Ch. Baudelaire, Œuvres complètes , 2 vol., Gallimard, 1975-1976, t. II

J.S.Mill, Autobiography , Boston , Houghton-Mifflin Company , 1969.

Ch. Delbo , Spectres , mes compagnons , Berg International , 1995 .

E . Kant , Œuvres philosophiques , t. II . Gallimard , 1985 , § 40 , p. 1073 .

هذه نبذة عن حياة الفيلسوف الفرنسي-البلغاري تزوفطان طودوروف (1939-2017) ، المولود بمدينة صوفيا البلغارية ، لكنه قضى بقية حياته منذ 1963 بفرنسا ، انصب اهتمامه بالنظرية الثقافية ، و تاريخ الفكر ، و بالخصوص النظرية الأدبية ، التي تندرج هذه القراءة لكتابه ، ذا العنوان ” الأدب في خطر ” . له 21 مؤلفا ، من بينها : ” شعرية النثر ” ، ” غزو أمريكا” ، ” الأمل و الذاكرة” ….

يعالج الكاتب الذي بين أيدينا ، إشكالية عميقة واقعية ، يعانيها الأدب منذ القدم و في وقتنا هذا ، متمثلة في مكانة الأدب في محيطنا و بين العلوم الأخرى ، فحاول وضع البصمة على الخطر الذي يعانيه ، مبتغيا وضعه في مكانه اللائق لا الدفاع عنه ، هنا تتجلى أهمية هذا الكتاب ، المتمثلة في التعرف على إشكالات و تصورات العامة و الخاصة ، للدراسات الأدبية بالخصوص ، بمقارنتها بالعلوم التجريبية و الفلسفة و العلوم الانسانية ، ووضع موازين القياس فيما بينها ، و تمثلاتها على الواقع و امتداداتها الزمكانية . منه لنقتفي آثار أهم خطى الكاتب في السرد و التحليل :

إذ مهد الكاتب لأهم الشروط  المسببة لعشقه للأدب ، هو انتماؤه لأسرة  تعشق الأدب ، يقول :

” مهما أوغلت في الصعود بذكرياتي ، أراني تحيط بي الكتب . كان والدي يمارسان مهنة قيم مكتبة ، وفي البيت كثرة مفرطة من الكتب .كانا يضعان باستمرار تصاميم رفوف جديدة لاستيعابها ، و أثناء ذلك تتراكم الكتب في الغرف والممرات ، مشكلة أكداسا هشة يلزمني أن أحبو وسطها . تعلمت سريعا القراءة و أخذت في التهام القصص الكلاسيكية المعدة للأطفال ، ألف ليلة وليلة ، وحكايات كرم و أندرسن ، وتوم سيور، و أوليفر تويست ، و البؤساء . ذات يوم ، في سن الثامنة ، قرأت رواية بأكملها ، لاشك كنت شديد الفخر بذلك لأنني كتبت في يومياتي الخاصة : ” اليوم قرأت على ركبتي جدي ، كتابا من 223 صفحة ، في ساعة ونصف ” .”

حيث عاش مرحلة الإعدادية و الثانوية في التوغل في القراءة، رغم أنه كان يجهل ما سيصيره، فقط إحساس يقوده، حيث قال بلسانه: ” لم أكن أعرف ماذا أريد أن أصنع في الحياة، لكني كنت متأكدا أن ذلك سيكون ذا صلة بالأدب ”

ليلبي شغفه المعرفي الأدبي اختار في نهاية الثانوية ، في المسلك الجامعي بدراسة الآداب سنة 1956 بجامعة صوفيا ب ” بلغاريا ” . الخاضعة لنمط الكتلة الشيوعية ، كما أن دراسة الأدب تركع لقبضة الايديولوجيا الرسمية ، لخصها في عبارة دقيقة : ” الأعمال الأدبية الماضية أو الحاضرة تقاس بمقياس التوافق مع العقيدة الماركسية اللينينية .”

علما بأن الكاتب لم تكن تحركه المواقف الشيوعية و لا روح التمرد ، إلا أنه تبنى موقف العامة من المواطنين ، فبخصوص تجنب الصيرورة  الإيديولوجية المتحكمة في الأدب  قال : ” سلكت إحدى الطرق النادرة التي تتيح الهروب من التعبئة الشاملة ”

إذ تم عرض اقتراح على الكاتب للذهاب لمدة سنة إلى أوروبا ، اختار باريس لاعتبارها مدينة الفنون و الآداب ، يقول : ” ها هو المكان حيث عشقي للأدب لن يعرف حدودا ، وحيث أستطيع أن أجمع بكل حرية بين القناعات الحميمية و المشاغل العامة ، منفلتا بذلك من الفصام الجماعي الذي يفرضه النظام الكلياني البلغاري ”

حاول الكاتب استغلال السنة المقدمة له، في دراسة ما يهمله النظام البلغاري الجامعي في باريس، لكن لم يكن يسيرا عليه ذلك، لكونه طالبا أجنبيا. فاتخذ قرار الاستقرار لمدة أطول ، فتسجل لانجاز دكتوراه أولى سنة 1966 ، ثم بعد ذلك دخل إلى المركز الوطني للبحث العلمي CNRS ، حيث قضى  كل مساره المهني .أما السنوات التالية كانت مرحلة اندماج داخل المجتمع الفرنسي حيث تزوج وأنجب ، كما صار مواطنا فرنسيا ، يمكنه إدلاءه  بصوته في الانتخابات ، حيث الصورة التي كانت مترسخة في ذهن الكاتب عن فرنسا  تتجلى في التصريح التالي : ” كنت أسعد بأن أرى أن فرنسا ديمقراطية تعددية ، تحترم الحريات الفردية .”

هذه الوجهة النظر أثرت في اختياره للأدب ورغبته فيه. وقد بدت في كتاباته خاصة في كتابه La Conquête de l’Amérique  وفي كتابه  Face à l’extrême … ، فالأدب منهج في الحياة ، يساهم في فضح المستور وفهم العالم ، إذ يمتد إلى اللانهاية ، باختراقه العلاقات الاجتماعية من كل الثقافات المختلفة ، لا مجرد استمتاع و نشوة زائرة بل هو قدر وجودي بكل ما تحمله الكلمة من معنى ، هذه كلمات قلبية من أديبنا و فيلسوفنا يحاور ذاته  :

” لو سألت نفسي اليوم لماذا أحب الأدب ، فالجواب الذي يتبادر عفويا إلى ذهني هو : لأنه يعينني على أن أحيا . لم أعد أطلب منه ، كما في الصبا ، تجنيبي الجراح التي قد تصيبني من لقائي بأشخاص حقيقيين ، انه عوض استبعاد التجارب المعيشة ، يجعلني أكتشف عوالم على اتصال بتلك التجارب ويتيح فهما أفضل لها … الأدب يفتح إلى اللانهاية إمكانية هذا التفاعل مع الآخرين وهو إذن يثيرنا لا نهائيا . يزودنا بإحساسات لا تعوض تجعل العالم الحقيقي أشحن بالمعنى و أجمل . ما أبعده عن أن يكون مجرد متعة ، وتلهية محجوزة للأشخاص المتعلمين ، انه يتيح لكل واحد أن يستجيب لقدر في الوجود إنسانا .”

اختزال عبثي للأدب :

في هذا المحور يحكي الكاتب عن تصوره واختزاله للأدب الفرنسي بصفة خاصة ، بالرغم من أنه لم يتلق  تعليما وازنا  بها ، لكن كونه أصبح مواطنا  وأبا يفرض عليه ضرورة اكتساب رؤية عن التعليم الأدبي في المدارس الفرنسية ، كما أسهمت مشاركته ما بين 1994 و 2004 بالمجلس الوطني للبرامج ” في لجنة استشارية متعددة التخصصات ، تابعة لوزارة التربية الوطنية ”

حيث خلص إلى رؤية مفادها على لسانه: ” يقوم مجموع هذه التعليمات إذن على خيار: الهدف الأول للدراسات الأدبية هو تعريفنا بالأدوات التي تستخدمها تلك الدراسات. قراءة القصائد و الروايات لا يسوق إلى التفكير في الوضع الإنساني ، و الفرد و المجتمع ، و الحب و الكراهية ، و الفرح و اليأس ، بل للتفكير في مفاهيم نقدية ، تقليدية أو حديثة . في المدرسة ، لا نتعلم عن ماذا تتحدث الأعمال الأدبية وإنما عن ماذا يتحدث النقاد .”

كما يتم وضع مفارقة بين المواد العلمية و الأدبية من ناحية المناهج: ” في المواد الأخرى، يتم هذا الخيار بطريقة أوضح بكثير. من جهة ، يجري تدريس الرياضيات ، والفيزياء ، و البيولوجيا ، أي مواد تعليمية (علوم) ، مع بذل الجهد في تتبع تطورها . ومن جهة أخرى ، يجري تدريس التاريخ ، لا منهجا للبحث التاريخي من بين مناهج أخرى.”

فهذا التميز شمل الجنس الواحد أيضا ، على سبيل النوع الأدبي في المستوى الباكالوريا . حيث يرى أن: ” الأستاذ ، في فصله ، لا يمكنه ، أغلب الأحيان ، الاكتفاء بأن يدرس ، كما تطلب منه ذلك التعليمات الرسمية ، الأجناس الأدبية و مستويات الخطاب ، وصيغ الدلالة و تأثيرات الاستدلال ، و الاستعارة و الكناية ، و التبئير الداخلي و الخارجي … فهو يدرس كذلك الأعمال الأدبية . غير أننا نكتشف هنا انعطافا ثانيا للتعليم الأدبي .”

يحاول الكاتب أن يخلص الى أهمية التساؤل حول القصدية النهائية للأعمال الأدبية لجدارتها للدراسة ، ففي نظره القارئ الراهني المعاصر ، يلجأ إلى هذه الأعمال ليس من اكتساب منهج للقراءة ولا لاحتواء معارف عن مجتمعه ، بل توجهه رغبته في فهم الإنسان و العالم ، بغية معرفة ذاته معرفة أدق و أفضل

ما وراء الدراسة:

شعور الكاتب بالتذمر و الحسرة على وضع الأدب، جعله ينطلق من إشكالية في هذا المحور، وفي نفس الوقت متتبعا خطوات الإجابة، كالآتي: ” كيف حدث أن صار التعليم المدرسي للأدب على ما هو عليه ؟ يمكن أولا أن نقدم لهذا السؤال إجابة بسيطة: ذلك أنه يعكس تحولا في التعليم العالي.”

حيث عمل على سرد و وصف نوعية الدراسات الأدبية الجامعية ، التي كانت تهيمن عليها اتجاهات معينة ، مما يضع الطلبة داخل إطار تاريخي ووطني ، بينما المتخصصون منهم كما صرح الكاتب وهم استثنائيون ” كانوا يدرسون خارج فرنسا أو خارج كراسي الدراسات الأدبية .”

كما وضح واقع التلاميذ من قبل المؤسسات التعليمة ، التي تلقن الأدب كعقيدة بعيدة عن العالم ، الذي أدى إلى نشوء تصور متدني عن الدراسات الأدبية ، بالتالي التهاون و الاستهتار به ، وعدم الانكباب عليه ، و الحدث الأمر من ذلك  مصير  طلاب الأدب القلة  :

” في 2006 ، في الجامعات الفرنسية ، هذه التعميمات المتعسفة معروضة دائما بوصفها مصادرات مقدسة. وكالمتوقع ، يتعلم تلاميذ الثانوي العقيدة القائلة بأن الأدب لا صلة له بسائر العالم ويدرسون علاقات عناصر العمل الأدبي فيما بينها وحدها . وهذا ، دونما شك ، يسهم في انعدام الاهتمام المتزايد لهؤلاء التلاميذ بالشعبة الأدبية : انتقل عددهم في بضعة عقود من 33 % إلى 10 % من جميع المسجلين في البكالوريا العامة ! ما جدوى دراسة الأدب إذا لم يكن سوى إيضاح للوسائل اللازمة لتحليله ؟ وبالفعل ، يجد طلبة الآداب هؤلاء أنفسهم في نهاية مسارهم أمام خيار غير متوقع : إما أن يصيرو بدورهم أساتذة للأدب أو يسجلوا أنفسهم في لائحة العاطلين.”

ليست غاية الكاتب الدفاع عن الأدب ضدا في أي علم آخر وإنما رغبته في وضعه في المكانة اللائقة به هذا ما صرح به ، حيث يرى أن ” الأدب نفسه هو الموجه إلى الجميع ، لا الدراسات الأدبية : فمن الأولى إذن تدريس الأدب لا الدراسات الأدبية .”

إذ وضع التوجه القائم في مطلع القرن الواحد والعشرين المسيطر في الأعمال الأدبية المعاصرة ، المتمثل في التصور الشكلاني (= المرتبط ببناء / توليد / تناظر / تصدي /  تلميح للنص ) ، وتيار العدمية ، الذي  ينظر إلى البشر بصورة مدمرة ( الناس أشرار/ العنف / الدمار/  كارثة ) هنا الأدب لا يصف العالم ، إلا أنه يرى أن ” تاريخ الأدب يبرهن على ذلك جيدا : من السهل العبور من الشكلانية إلى العدمية أو العكس ، بل من الممكن ممارسة الاثنتين معا في آن واحد.”
كما أن هناك تيار ثالث متمثل ” بنزعة الأنانة Solipsisme   ، باسم تلك النظرية الفلسفية التي تصادر على أن الأنا الذاتي هو الكائن الوحيد الموجود .”

نشوء  علم الجمال الحديث:

سيستحضر تزوفيطان طودوروف  بطريقة لا مباشرة ، في هذا المحور أدلة تبرز العلاقة بين الأدب و العالم منذ القدم ، متخذا نموذج الشعر كجمال وإبداع فني ، واضعا نقطة البداية ” الأطروحة التي مفادها أن الأدب ليس مرتبطا بعلاقة ذات دلالة مع العالم ، و بالتالي فالحكم عليه ليس له أن يأخذ بالحسبان ما يقول لنا عن ذلك العالم ، ليست من ابتكار أساتذة الآداب اليوم ، ولا إسهاما أصيلا للبنيوين . هذه الأطروحة ذات تاريخ طويل ومعقد ، مواز لتاريخ ظهور الحداثة . ومن أجل فهم أفضل لتلك الأطروحة ، و التمكن من النظر إليها من خارج ، أريد أن استحضر هنا بإيجازها مراحلها الرئيسية .”

فالشعر لدى أرسطو : ” محاكاة للطبيعة ، وأن وظيفته ، حسب هوراتيوس ، هي المتعة و الفائدة . فالعلاقة بالعالم موجودة سواء من جهة المؤلف ، الذي ينبغي له معرفة حقائق العالم كي يقدر على ” محاكاتها ” ، أو من جهة القراء و السامعين الذين ، بالتأكيد ، يجدون فيها متعة ، لكنهم أيضا يستمدون منها دروسا قابلة للتطبيق على سائر حياتهم .”

ففي مرحلة القرون الوسطى ، خاصة أوروبا المسيحية : ” الشعر في الأساس لتبليغ و تمجيد مذهب يقدم عنه قراءة أبسط و أبلغ تأثيرا ، لكن في الآن ذاته ، أقل دقة .”

في عصر النهضة يستلزم من الشعر ” أن يكون جميلا، لكن جماله نفسه يتحدد بحقيقته وإسهامه في الخير. ونتذكر بيت بوالو : ” لا شيء أجمل من الحق ، و الحق وحده معشوق .”

في العصور الحديثة التي أصبحت مرتبطة ارتباطا وثيقا بالعلمنة الدينية المتجهة نحو تقديس الفن و محايثته ، إذ الطريقة الأولى التي تتجلى في سمو فكرة ” الفنان المبدع ” المحاكي و الشبيه بإبداع الله ، كما أن الله في الديانة التوحيدية هو ” كائن لا متناه يخلق عالما متناهيا ، و الشاعر ، بمحاكاته ، يماثل إلها يصنع أشياء متناهية.”

كما أن فكرة محاكاة الإنسان بالإله قديمة، حيث نجد في عصر النهضة ” عند الكاردينال نيكولا دي كييس ، لاهوتي لكن أيضا فيلسوف ، كان قد كتب في منتصف القرن الخامس عشر ” الإنسان اله آخر […] باعتباره مبدعا للفكر و للأعمال الفنية .”  ، ” وسيقال في موازاة مع ذلك إن الله هو أول الفنانين ، فيؤكد لاندينو ، أفلاطوني محدث من فلورنسا ، أن : ” الله هو الشاعر المطلق و العالم هو قصيدته .”  ، و ” انطلاقا من القرن الثامن عشر ستقود الخطاب النقدي الوصفي ، بفضل تأثير فلسفة جديدة ، هي فلسفة ليبنيتز ، الذي أدخل مفهومي الجوهر الفرد  monade  و العالم الممكن : الشاعر يمثل هاتين المقولتين ، لأنه يبدع عالما موازيا للعالم الطبيعي الموجود ، عالما مستقلا لكن بنفس القدر من الاتساق .” ، إلا أن ” الطريقة الثانية لفصم الصلة بالرؤية الكلاسيكية تقوم على القول بأن هدف الشعر  ليس محاكاة الطبيعة ، و لا الإفادة و الإمتاع ، بل إبداع الجمال .”  ، علما بأن ” في القرن السابع عشر و الثامن عشر ، سيتشيد التأمل الجمالي ، و الحكم القائم على الذوق ، وحس الجمال ككيانات مستقلة بذاتها.”،  منه : ” إن التعرف على بعد جمالي في أشكال مختلفة من الفعاليات و الإنتاج هو سمة إنسانية عامة.”

جماليات عصر الأنوار :

يعتبر عصر الأنوار ، عصر استقلال وخروج من القصور الذاتي ، بلغة  صانع بؤرة الحداثة ، الفيلسوف الألماني ايمانويل كانط ( E.Kant) ، هنا تبرز مفاهيم الذات الناقدة ، و فرادة الفرد في التحرر و الإبداع في الفن ، ف” إن روح عصر الأنوار هي روح استقلال الفرد ، و الفن الذي يظفر باستقلاله يسهم  في تلك الحركة نفسها . يصير الفنان تجسيدا للفرد الحر ، وعمله الفني يتحرر بدوره .”

في هذا العهد ظل الحكم الجمالي في الفن محايثا للواقع ، ملازما للقيم ، أي ظلت الفلسفة الأفلاطونية حاضرة ، لم يتم القطع مها بصفة نهائية ، كما نستنتج بأن التاريخ الأفكار هو تاريخ بناء مشيد من طبقات ، لابد لها من أساس ترتكز عليه :

” إن مفكري القرن الثامن عشر ، حين صمموا على وضع الفن تحت حكم الجمال ، لم يحاولوا مع ذلك قطعه في صلاته بالعالم ، لم يستحل الفن غريبا عن الحق و الخير . وهم في هذا يحتذون التأويل الأفلاطوني : الجمال المادي ما هو إلا المظهر الأشد سطحية للجمال ، إذ يحيل بدوره على جمال الأرواح ومن ثم على الجمال المطلق و الأبدي ، الذي يضم على السواء الممارسات البشرية اليومية ، أي الأخلاق ، و البحث عن المعارف ، أي الحقيقة ”  ، فمثلا : “جمال الشعر يعتمد على معناه و لا يمكن فصله عن حقيقته. ”

صنفت الأعمال الأدبية في العصر الذهبي على سبيلين (= طريقين) متباينين في الوسيلة لا الغاية ، هما ما بين الشعراء و الفلاسفة أيهما يؤدي إلى فهم كنه الإنسان والعالم ، فلكم  كلمات و حروف طودورف بالحرف التام :” لم يتخيل هؤلاء المفكرون إذن عن قراءة الأعمال الأدبية كخطاب عن العالم ، لكنهم كانوا بالأحرى يحاولون التمييز بين طريقين ، طريق الشعراء و طريق العلماء ( أو الفلاسفة ) ، ولكلتيهما مزاياها ، دون أن تكون إحداهما شكلا أدنى من الأخرى : طريقان يقودان للغاية نفسها ، هي فهم أفضل للإنسان و العالم ، وحكمة أكبر .”

إلا أن ما لا يمكن الإزاحة عنه ، أنه تم قلب مفاهيم الفن من الموضوع إلى الذات ، مولدا براديغما مناقضا للفنون الكلاسيكية و القديمة ، إذ ” مجموع هذه المفاهيم سيستعيدها و ينقحها كانط في كتابه نقد ملكة الحكم ( 1790) ، الذي سيؤثر بدوره على مجموع التفكير المعاصر حول الفن ، بإبقائه دائما على هذا المنظور المزدوج : الجمال منزه عن الغرض ، وفي الآن ذاته هو رمز للأخلاقية . لا يمكن إثبات الجمال موضوعيا ، لأنه صادر عن حكم الذوق ويكمن إذن في ذاتية القراء أو المشاهدين ، غير أنه يمكن التعرف عليه في تناغم عناصر العمل و بكونه موضوعا لتوافق .”!!

من الرومانسية حتى الحركات الطليعية :

لم يعد علم الجمال يمكن من معرفة الواقع ووصفه  بل يؤثر فيه ، حيث ” تمكن مجموع علم الجمال في عصر الأنوار ، الذي يمثله بدرجات متفاوتة شافتسبري ، أوفيكو ، أوباومكارتن، أوليسنك ، أوكانط ، أو جيرمين دي ستال ، أو بنجامان كونستان ، أن يحافظ على هذا التوازن غير المستقر : فهو ، من جهة ، بخلاف النظريات الكلاسيكية ، قد حول مركز ثقل المحاكاة إلى الجمال و أكد استقلالية  العمل الفني ، ومن جهة أخرى ، لم يكن علم الجمال هذا يجهل بتاتا العلاقة التي تربط الأعمال بالواقع : أنها تساعد على معرفته وتؤثر بدورها فيه .”””

إلا أن الفن في مطلع  القرن التاسع عشر مع الحركة الرومانسية ، لم يحدث هو كذلك قطيعة ، إذ ” يمكن الاستخلاص من هذا أن الفن لا يفضي إلى معرفة العالم فحسب ، بل يكشف في الآن ذاته عن وجود هذه الحقيقة  ذات الطبيعة المختلفة . و الواقع أن هذه الحقيقة ليست مقصورة على الفن ، لأنها تشكل أفق أشكال الخطاب التأويلي الأخرى : التاريخ ، العلوم الإنسانية ، الفلسفة . و الجمال نفسه ليس مفهوما لا موضوعيا ( إذ يمكن إثباته بفضل مؤشرات مادية ) ، ولا ذاتيا ، أي تابعا للحكم الاعتباطي لأي أحد ، انه بينذاتي ، منتسب إذن للمجموعة البشرية . و الحال أن جمال نص أدبي ليس شيئا غير الحقيقة . ذلك كان سلفا معنى بيت كيتس الشهير : ” Beauty is truth , truth is beauty ” [ الجمال حقيقة ، الحقيقة جمال ].”##،  ف” الفن يقوم بتأويل العالم ، ويمنح الشكل لما لا شكل له ، بحيث انه ما أن يهذبنا الفن حتى نكتشف مظاهر مجهولة في الأشياء و الكائنات المحيطة بنا.”$$

إلا أن حركات جديدة ستظهر و ستؤثر خصوصا في مجال الرسم ” التصور الجديد سيظهر في وضح النهار لدى الحركات المسماة ” طليعية ” في مطلع القرن العشرين ( التي تمثل نوعا فرعيا لما يتم تعريفه ب ” الفن الحديث “. تجلت هذه الحركات للمرة الأولى في روسيا حوالي 1910: تلك بدايات التجريد في الرسم، و الابتكارات المستقبلية في الشعر. صار مطلوبا من الرسم تناسي العالم المادي و أن لا يرضخ إلا لقوانين الرسم الخاصة به. فيكتب الرسام ميخائيل لاريونوف ، مبدع ” الشعاعية ” ، في بيان سنة 1913 : ” الأشياء التي نراها في الحياة لا تلعب أي دور في اللوحة الشعاعية . وعلى العكس ، ينجذب الاهتمام لما هو جوهر الرسم ذاته : تركيب الألوان ، وتركيزها (…) . نرى هنا بداية التحرر الحقيقي للرسم، وحياته من مجرد قوانينه الخاصة، الرسم هدفا في ذاته، بأشكاله المخصوصة، ألوانا و رنات.” وكازمير ماليفيتس ، مؤسس ” السمرية” يقول من جهته في 1916 انه ينبغي اعتبار ” الرسم عملا له غايته الخاصة به . ”

ماذا يستطيع الأدب ؟

يقوم الأدب بأدوار و مهام منفعية عملية سواء بالنسبة لذات أو في علاقتنا مع الغير ، إلا أن المهمة الكبرى هي استيعاب ماهية الإنسان و العالم ، لا تكريس دوغمائية الرأي و التفكير :” الأدب يستطيع الكثير . يستطيع أن يمد لنا اليد حين نكون في أعماق الاكتئاب ، ويقودنا نحو الكائنات البشرية الأخرى من حولنا ، ويجعلنا أفضل فهما للعالم ويعيننا على أن نحيا . ليس ذلك لكونه ، قبل كل شيء، تقنية لعلاجات الروح ، غير أنه ، و هو كشف للعالم ، يستطيع أيضا ، في نفس المسار ، أن يحول كل واحد منا من الداخل . للأدب دور حيوي يلعبه ، لكنه ليكون كذلك ، ينبغي أخذه بهذا المعنى الواسع و القوي الذي هيمن في أوروبا حتى نهاية القرن التاسع عشر وصار مهمشا اليوم ، بينما ينتصر تصور مختزل على نحو غير معقول . و القارئ العادي ، الذي يستمر في البحث ضمن الأعمال التي يقرأها عن ما يمنح معنى لحياته ، هو على صواب ضد الأساتذة ، و النقاد ، و الكتاب الذين يقولون له إن الأدب لا يتحدث إلا عن نفسه ، أو لا يعلم إلا اليأس . إذا لم يكن على صواب، فسيكون محكوما على القراءة بالزوال في أجل قريب.”&&

” الأدب، مثلما الفلسفة، مثلما العلوم الإنسانية، هو فكر ومعرفة للعالم النفسي و الاجتماعي الذي نسكنه. و الواقع الذي يطمح الأدب إلى فهمه هو، بكل بساطة ( لكن، في الآن ذاته، لا شيء أكثر تعقيدا )، التجربة الإنسانية.””

علاوة على كل ما سبق ” فالأدب ، سواء بواسطة المونولوغ الشعري أو بواسطة السرد ، يجعلنا نحيا تجارب فريدة ، أما الفلسفة ، فتعالج مفاهيم . الأول يصون ثراء المعيش و تنوعه ، و الثانية تفضل التجريد التي يتيح لها صياغة قوانين عامة . ذلك ما يجعل نصا يتفاوت في سهولة استيعابه . رواية الأبله لدستويفسكي يمكن أن يقرأها ويفهمها عدد لا يحصى من القراء ، من حقب و ثقافات شديدة الاختلاف ، لكن شرحا فلسفيا لنفس الرواية أو لنفس أغراضها لن يكون مفهوما إلا لقلة متعودة على هذا النوع من النصوص . غير أن أقوال الفيلسوف ، بالنسبة للذين يفهمونها ، تمتاز بعرضها لقضايا لا لبس فيها ، في حين أن الانقلابات التي تعيشها شخصيات الرواية أو مجازات الشاعر تحتم تأويلات متعددة .”((

تواصل لا ينفد :

سيخصص هذا المحور ، لذيوع و شمولية الأدب لا على نفسه بل باختراق دوائر ، ترمي كلها إلى تحقيق الوجود الإنساني لذاته :

” نقرأ في تقرير وضعته جمعية أساتذة الأدب : ” دراسة الأدب تعني دراسة الإنسان ، علاقته بنفسه و بالعالم و علاقته بالآخرين ” و بتعبير أدق ، تحيل دراسة العمل الأدبي على دوائر متحدة المركز تزداد اتساعا : دائرة الكتابات الأخرى لنفس المؤلف ، دائرة الأدب القومي ، دائرة الأدب العالمي ، لكن سياقها النهائي ، و الأهم ، هو الوجود الإنساني ذاته . جميع الأعمال الأدبية العظيمة ، أيا كان منشأها ، تدعوا التفكير إلى سلوك هذا السبيل .”))

منه : ” إذا ما قبلنا بهذه القصدية للتعليم الأدبي ، الذين يعود صالحا فحسب لمجرد إعادة إنتاج أساتذة للآداب ، فمن اليسير التفاهم حول الروح الذي ينبغي أن يحرك هذا التعليم : يلزم إدراج الأعمال الأدبية في الحوار العظيم بين البشر ، الذي بدأ في غياهب العصور ولايزال كل واحد منا مهما صغر قدره ، يشترك فيه . كتب بول بنيشو : ” في هذا التواصل الذي لا ينفد ، القاهر للأمكنة و الأزمنة ، يتأكد المدى الكوني للأدب .” علينا ، نحن الكبار ، يقع واجب تبليغ الأجيال الجديدة هذا الميراث الهش ، هذه الكلمات التي تسعف على حياة أفضل . “**

هكذا تنتهي رحلتنا في هذه  القراءة المتواضعة ، للمفكر العظيم تزوفيطان طودوروف ، الذي عاش بين أحضان الأدب ، و لعشقه وهوسه به دافع عنه عدالة منه ، من الرؤى القد حية و المستهترة به ، أعجز عن إبداء رأي صريح لما تخوله له مكانته من غزارة إنتاج ، و كوني في طور البحث و التنقيب لا النقد ، هي محاولة قابلة للتجاوز وإعادة النظر .

فمحبة الدراسات الأدبية من طرف المؤلف ، قادته الى رؤية عقلانية واقعية بصلة الأدب بالفنون الجميلة و أثرها على الواقع ، بل أزيد من ذلك تساهم في فهم الانسان و علاقته بمجتمعه و بالعالم ، كما أن سريانه لا يقتصر على مكان و زمن محدود و متناه ، بينما اخترق اللازمكان ليكون ذا صبغة لامتناهية النفاذ .

بقلم: لبنى بطاهر

2 8

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى