
من القهر إلى الهدر
قراءة في المجموعة القصصية ” حين يبكي القمر ”
للكاتب محمد المهداوي.
“حين يبكي القمر ” مجموعة قصصية أهداها الكاتب إلى البراءة المغتصبة تحت جنح الظلام في غفلة من التاريخ و خلل في الجغرافية .
” حين يبكي القمر ” واحدة من القصص الواقعية التي ألهبت الذاكرة و رصدت واقع الإنسان المقهور و المهدور ، قصص غطى سواد قلم السارد مساحة أربع عشرة قصة ، من ص 13 إلى ص 73 ، قصص مستقاة من واقع مر ّ و مرير ، و عناوينها تفضح مأساة شخوصها : ” اغتصاب وردة الياسمين ” ” رحلة العذاب ” ” مهمومة” “الفاجعة” ” حادثة مفزعة ” … …كل شخوص المجموعة القصصية استباحت لنفسها سبر أغوارنا الداخلية ، و فتحت لنا الباب أمام استنكار أحداث ووقائع عاشتها الطبقات الكادحة و هي في بحثها عن الخبز ذاقت كل ألوان و فنون البؤس ،الحياة بحقول النوار / العار نصبت للشخوص فخاخا و طبعت على أجسادها وشوما ظلت خالدة ، و بصمت على أفئدتها جروحا تصعب خياطتها ، و ندوبا لم تفلح مراهم الصيدليات في محوها ، يقول السارد في ص 15 : ” سقطت الإنسانية في الوحل ،و تلطخت براءة الطفولة بالإثم و الخطيئة ….” و هو يسرد اغتصاب طفلة بطلة القصة ، طفلة دفعها الفقر و الحاجة إلى العمل ، فدهست كرامتها و نهش لحمها ….ظل العار محبوسا داخلها لأكثر من ثلاثين عاما ….يتابع السارد قائلا على لسانها : ” لقد حكم علي الزمان ألا أتوقف عن البكاء العمر كله ، لكنني سأجعل من عبراتي المالحة زوبعة مدمرة لكل حقل من حقول العار المترامية في سائر أرجاء وطني …” ص 17 .
يزداد الألم…يتكالب الأسى ….ينمو البؤس داخل لوحات لغوية يستلم السارد مفاتيحها من بنيات اجتماعية محطمة ، مهزومة و مهزوزة …يقول المهداوي في قصة ” فرحة لم تكتمل “ص 19 : “كان العمال يستقلون شاحنة كبيرة للتنقل إليها في حدود الساعة الثالثة ليلا ، حاملين معهم الدرعية و هي عبارة عن سلة من الدوم تعلق على الأوراك ليتم ملؤها بالورد ، كان طعامهم اليومي خبزا باردا مع حبة طماطم أو بصل ، و إن حضر البيض المسلوق فذاك يوم مشهود .. ” .ما كدت أنهي هذه الصورة حتى تذكرت قول الشاعر محمد الماغوط : [وحدهم الفقراء ينهضون مبكرين قبل الجميع حتى لا يسبقهم إلى العذاب أحد .]
الألم تتصاعد ذروته و السارد يتفنن في خياطة هذه الأحداث…فيعلو صوته .. و صوت العمال مبحوح في حقول العار ، أصواتهم مصبوغة بصدأ الجوع …يتوالى السرد و يأخذنا الكاتب بصوره اللغوية ليحدثنا عن التراكتور و عن عربته فهي حديدية طويلة هي من كانت تقل العمال إلى الحقول …يصف طريقة جرها يمينا و يسارا …فأستحضر الأحلام المجرورة و المعلقة على مشاجب الحسرة …كل أحلامنا ظلت مجرورة لا تقوى على الوقوف : ” لعل الحبل السري الذي يربط بين الجرار و الريمورك سينقطع يوما ما بسبب أنين الأطفال الأبرياء و صرخات العذارى ….” ص 25 .
إن الكاتب في مجموعته القصصية ” حين يبكي القمر ” يصور صرير الأحلام و هي تأبى النوم .. ترفض الصمت ، أزيز الطموحات البسيطة و المشروعة بين حقول النوار ، و المفارقة العجيبة هي أن تلك الحقول حقول الياسمين ، و نعلم ما للياسمين من جمال و سحر …لكن السارد ربط لنا الياسمين بجرح الحلم ، بأنين مسحوق بين مطرقة الواقع و سندان الطموح.
مما لا شك فيه أن نصوص الأستاذ المهداوي هي صرخة في وجه الظلم و الاحتقار ، صيحة رافضة للعار ،قصص بناها بأسلوب شيقة لغته ، بارع سرده ، ممتعة حبكته ، متقن وصفه ،معتمدا تسلسلا زمنيا مفعما بالألم تارة و بالأمل أخرى .لقد اخذ الكاتب على عاتقه إيصال رسالة إنسانية ليس فقط من حقول النوار من مدينة بركان ، بل هي لها تماثل محوري في كل الحقول و الضيعات الإقطاعية .. ..
إن قصص ” حين يبكي القمر ” تحكي قصص الإنسان المقهور الذي لا يملك زمام أمره و لا يستطيع التحكم في مصيره …فكانت الأشجار و الطيور تحكي أحلام شخوصها لكل من عبر المكان ، و إن كانت أجساد البؤساء تخبئ تحت تجاعيدها حكايات و حكايات …
إن الغوص في المتن القصصي للسارد يحتاج منا باعتبارنا قراء مناعة ضد الشجن و الحزن ، و قوة لتجاوز الضعف الإنساني، و حصانة لتجاوز الأسى المتناغم مع التأثر ..يحتاج منا تعلم الدفاع عن حقنا في أكل الخبز ، و حق الطفل في شراء كرة قدم ليلعب مع أقرانه في الملعب ….لا ان تنتهي حياته بصعقة كهربائية امتصت دماءه ، و ألقت به جثة هامدة على وجه الأرض المبللة بالندى …ص 54 .
يقول مصطفى حجازي : إن مساحة الهدر الإنساني تتسع من إباحة الدم و إراقته ، إلى سحب قيمته مما يفقده حرمته ….
إن الهدر أكثر جذرية من القهر .