
” الكتابة هي تمرد على الكلمات المبحوحة في شفاه تعاني سطوة الخجل ” الكاتب السعودي محمد حامد .
هكذا جاءتنا إطلالة الشاعرة خديجة تدراريني من قلب سوس، إطلالة إبداعية أولى بديوان شعري بعنوان ” لحظة ميلاد ” كتاب من الحجم المتوسط ، يقع في 168 صفحة ، يضم بين جناحيه متنا شعريا يتراوح بين الطول و القصر ،ذو طبعة أنيقة و رائعة، من الناحية الطبوغرغرافية تتخلى قصائد الديوان عن نظام الشطرين ، و صرامة الوزن و إيقاعات التفعيلة ، فجاءت النصوص منثورة ، متمردة على الإيقاع الكلاسي، نصوص لغتها واضحة و جلية ، تقرأ واقع الشاعرة بعين ذات مبدعة مسكونة بالحب ، مفجوعة بالفراق و ألم الفقد ، نصوص تعزف على إيقاعات سيكولوجية موجوعة .
و كما هي العادة ، فبضع سطور هنا لن تفي الكتاب حقه ، لكنني سأقارب الديوان عبر عتباته ثم سأركز على التيمة المهيمنة .
العتبات النصية :
1 – العنوان : مركب إضافي من كلمتين تحيل الأولى على دلالات عديدة فكلمة ميلاد تعني الفرح ، الأمل ، و غالبا ما ترتبط بالعيد فنقول عيد الميلاد / شهادة الميلاد /…..أما لحظة فهي إشارة زمنية .
2 -الإهداء : لم تخرج خديجة عن المألوف و المتعارف عليه ، حيث أهدت عملها لروح والديها و زوجها .
و لأبنائها و حفيدتيها و للأصدقاء .
3 – المقدمة : من خلالها منحتنا مفتاح فك لغز العنوان ، مشيرة إلى أن الإنسان تأتي عليه لحظات يشم خلالها نسيما يعيد بعثه من جديد، نسيم يتخطى به الوجع ، مبينة أن الروح تميل بطبعها لتجاوز الجروح و طي صفحات الحزن ،باحثة عن ميلاد لحظة يبزغ فيها فجر جديد و لحن جديد ، و ” ميلاد لحظة ” عند الشاعرة كان تخطي ألم الفراق و الفقد (الوالدين و الزوج ) .
4 – الصورة : من رسم نزهة بيغرمان و هي ابنة الشاعرة ، فالمبدع ينجب مبدعا ، و لمسة الإبداع بالحرف انتقلت الى الإبداع بالريشة .و هي تمثل صورة اجتمع فيها عنصري الجمال : الأنثى/ الوردة .
5 – ظهر الغلاف: تتضمن صورة فوتوغرافية شخصية للشاعرة و مقطعا شعريا من الديوان .
6- حيثيات النشر : إشارات قانونية و تسويقية ، كما تجدر الإشارة إلى خلو الغلاف من ثمن الكتاب .و كأنها ترغب أن تعطي عصارة تجربتها مجانا .أو الكتابة بالنسبة لها لا ثمن لها ، و لا يمكن أن تقدر بمال…..
7- التعيين الجنسي : جنست الشاعرة عملها ” ميلاد لحظة ” على الغلاف ب ” ديوان شعر” .
يقول واسيني الأعرج ” الكتابة لا شيء سوى رعشة الألم الخفية التي نخبئها عن الآخرين حتى لا يلمسوا حجم المأساة و جحيم صرخات الكلمات المذبوحة بنصل صدئ ” . الكتابة فعلا رعشة ألم ، و رقصة مسكون بالحرف ، إنها تعرية الجرح للماء و للملح ….هذا ما يطالعنا منذ الاطلالة الأولى على فحوى الديوان ، نصوص شعرية تعلن عناوينها و معجمها عن الألم المخبأ بين تعاريج النفس ، و منعطفات الروح ، إنها جبال أسى تنوح بالفقد ووجعه ،إليكم هذا المعجم و الذي غطى كل النصوص : الليل / الأرق / الأحلام / القلب / قلق/ خوف/ جنون / ذكرى / وجع / لحن/ دجى /ظمأ /صمت/ أنين /أوهام/ أمنيات/ قمر /أمل/ الشفق/ حنين / أمطار /غيث/ ندى /غروب /الوداع/ شوق/ خريف ….. يمكن اعتبار هذا العمل الإبداعي مرجعا لغويا في معجم الألفاظ الرومانسية …حيث لا تخلو القصائد من عبارات و ألفاظ التيار الرومانطيقي و الذي استمدت منه شاعرتنا مرجعياتها.
البعد العاطفي / الوجداني :
إن شاعرتنا وظفت معجما وجدانيا ، فكان المساء بدلالاته حاضرا في نصوصها بدءا من الصفحة 3 :
تقول :
بعد سكون الغسق
مساء يتجاهلني
شريدة الفكر
أطل
من شركات المحال
الأمنيات ترحل
مثل شهيق مغتال
أتراه الوجع ..
شاعرتنا تطلق شحنة عاطفية/ وجدانية باحثة عن الأمنيات الراحلة و تختار زمنا ملائما هو المساء ، وهنا نستحضر شاعر القطرين مطران خليل مطران و كيف ضمن قصيدته” المساء ” كل معاني الضعف الجسدي و الوجداني ، معظم الشعراء ارتبط لديهم المساء بتذكر الوجع و الحزن .
تتابع شاعرتنا شجنها :
و تراتيل المساء الكليلة
تحصد كل أمل يصبو
ص: 7
المساء ينادي الغروب
يهديه قربانا للشفق
لن يقاوم الريح
عواصف تبتلع المسافات …..
ص: 49
إن المتأمل في تجربة الشاعرة في ديوانها الأول “لحظة ميلاد ” سيدرك بلاشك ميولها وانحيازها للمدرسة الرومانسية، فهي ترسم لنا لوحات فنية شعرية ، معبرة عن إحساسها المرهف تجاه الأحداث و الأشخاص و القارئ للديوان سيجد علامات العَبَرات و الأسى ممزوجة بنغمة حزينة مكلومة .
يقول شوفالييه دوبوفور ” كما يحتاج الليل إلى نجوم ، يحتاج المجتمع إلى شعراء ” ، رغم مسحة الحزن و الفقد في نصوص شاعرتنا لكنها حاولت أن تزرع الأمل في النفوس ، و أن تقنع المتلقي أن بعد الظلام هناك نور و بعد الأسى هناك ولادة فرح و أمل ، فالكلمات عندها قادرة على إيصال المعنى و اختراق النفس ، فهي تترجم شعورها الصادق تجاه الحياة و الحب و الفرح ، و نصوصها متدفقة المعنى كمًّا و كيفا .
إن المبدع لن يستطيع فهم الحياة و سبر أغوارها و تجاربها دون الخوض في غمارها متأملا وجوده و هذا ما جعل الشاعرة في قصيدتها ” أمشي إلى حيث لا أدري ” تقول :
إلى أين المصير ؟
وقد تعثر الحلم
وانقلبت قواميسي
رحماك ربي
اهدني لأصل دربي
إني أمشي
إلى حيث لا أدري
ص : 108
الشاعرة يتعثر حلمها ، و تنقلب قواميسها ، فتلجأ إلى الله ، إنها اللاأدرية التي تغنى بها إيليا أبو ماضي . لكنها عند شاعرتنا مرتبطة باليقين و الدعاء .
و ختاما فإن شواطئ الشعر عند خديجة تيدراريني ممتدة ، و خلجان كلماتها مفتوحة على كل الجهات و إن كان المهيمن هو البعد الرومانسي / فالقارئ لها يجدها متشبعة بمطران و جبران و إيليا أبي ماضي و ميخائيل نعيمة .
إن شاعرتنا أسست لتجربتها في مجال الإبداع و أبحرت في يم الحروف فاتحة لها بابا عنوانه صانعة الحرف .
نرجو لشاعرتنا مقاما طيبا على صهوة الشعر ، ومزيدا من العطاء لإثراء مكتبتنا المغربية .
ذة : مينة الحدادي رابطة كاتبات المغرب ، اشتوكة أيت باها .